الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{قال ربّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له} [القصص: 16]؛ وإن كان مراده معنى ضلال الطريق، أي كنت يومئذ على غير معرفة بالحق لعدم وجود شريعة، وهو معنى الجهالة كقوله تعالى: {ووجدك ضالًا فهدى} [الضحى: 7] فالأمر ظاهر.وعلى كلا الوجهين فجواب موسى فيه اعتراف بظاهر التقرير وإبطال لما يستتبعه من جعله حجة لتكذيبه برسالته عن الله، ولذلك قابل قول فرعون {وأنت من الكافرين} [الشعراء: 19] بقوله: {وأنا من الضالين} إبطالًا لأن يكون يومئذ كافرًا، ولذلك كان هذا أهم بالإبطال.وبهذا يظهر وجه الاسترسال في الجواب بقوله: {فوهب لي ربي حكمًا وجعلني من المرسلين}، أي فكان فراري قد عقبه أن الله أنعم عليّ فأصلح حالي وعلمني وهداني وأرسلني.فليس ذلك من موسى مجرد إطناب بل لأنه يفيد معنى أن الإنسان ابن يومه لا ابنُ أمسِه، والأحوال بأوَاخرها فلا عجب فيما قصدتَ فإن الله أعلم حيث يجعل رسالاته.وقوله: {ففررت منكم} أي فرارًا مبتدئًا منكم، لأنهم سبب فراره، وهو بتقدير مضاف، أي من خوفكم.والضمير لفرعون وقومِه الذين ائتمروا على قتل موسى، كما قال تعالى: {وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك} [القصص: 20].والحكم: الحِكمة والعلم، وأراد بها النبوءة وهي الدرجة الأولى حين كلمه ربّه.ثم قال: {وجعلني من المرسلين} أي بعد أن أظهر له المعجزة وقال له: {إني اصطفيتك على الناس} [الأعراف: 144] أرسله بقوله: {اذهَب إلى فرعون إنه طغى} [طه: 24].ثم عاد إلى أول الكلام فكرّ على امتنانه عليه بالتربية فأبطله وأبى أن يسميه نعمة، فقوله: {وتلك نعمة} إشارة إلى النعمة التي اقتضاها الامتنان في كلام فرعون إذ الامتنان لا يكون إلا بنعمة.ثم إن جعلت جملة {أن عبدت} بيانًا لاسم الإشارة كان ذلك لزيادة تقرير المعنى مع ما فيه من قلب مقصود فرعون وهو على حد قوله تعالى: {وقضينا إليه ذلك الأمر أنّ دابرَ هؤلاء مقطوعٌ مصبحين} [الحجر: 66] إذ قوله: {أن دابر هؤلاء} بيان لقوله: {ذلك الأمر}.ويجوز أن يكون {أن عبدت} في محل نصب على نزع الخافض وهو لام التعليل والتقدير: لأن عبَّدتَّ بني إسرائيل.وقيل الكلام استفهام بحذف الهمزة وهو استفهام إنكار.ومعنى {عبدت} ذَلَّلْت، يقال: عبَّد كما يقال: أعبد بهمزة التعدية.أنشد أئمة اللغة:
وكلام موسى على التقادير الثلاثة نقض لامتنان فرعون بقلب النعمة نقمة بتذكيره أن نعمة تربيته ما كانت إلا بسبب إذلال بني إسرائيل إذ أمر فرعون باستئصال أطفال بني إسرائيل الذي تسبب عليه إلقاء أمّ موسى بطفلها في اليمّ حيث عثرت عليه امرأة فرعون ومن معها من حاشيتها وكانوا قد علموا أنه من أطفال إسرائيل بسِماتتِ وجهه ولون جلده، ولذلك قالت امرأة فرعون {قُرتُ عين لي ولك لا تَقتلُوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا} [القصص: 9].وفيه أن الإحسان إليه مع الإساءة إلى قومه لا يزيد إحسانًا ولا منة. اهـ.
والإطلاق الثاني وهو المشهور في اللغة، وفي القرآن هو إطلاق الضلال على الذهاب عن طريق الإيمان إلى الكفر، وعن طريق الحق إلى الباطل، وعن طريق الجنة إلى النار ومنه قوله تعالى: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} [الفاتحة: 7].والإطلاق الثالث: هو إطلاق الضلال على الغيبوبة والاضمحلال، تقول العرب: ضل الشيء إذا غاب واضمحل، ومنه قولهم: ضل السمن في الطعام، إذا غاب فيه واضمحل، ولأجل هذا سمت العرب الدفن في القبر إضلالًا، لأن المدفون تأكله الأرض فيغيب فيها ويضمحل.ومن هذا المعنى قوله تعالى: {وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض} [السجدة: 10] الآية يعنون إذا دفنوا وأكلتهم الأرض، فضلوا فيها: أي غابوا فيها واضمحلوا.ومن إطلاقهم الإضلال على الدفن، قول نابغة ذبيان يرثي النعمان بن الحرث بن أبي شمر الغساني: وقول المخبل السعدي يرثي قيس بن عاصم: فقول الذبياني: فآب مضلوه: يعني فرجع دافنوه، وقول السعدي:أضلت أي دفنت، ومن إطلاق الضلال أيضًا على الغيبة والاضمحلال قول الأخطل: وقول الآخر: وزعم بعض أهل العلم: أن للضلال إطلاقًا رابعًا: قال: ويطلق أيضًا على المحبة قال: ومنه قوله: {قَالُواْ تالله إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ القديم} [يوسف: 95] قال أي في حبك القديم ليوسفن قال ومنه قول الشاعر: وزعم أيضًا أن منه قوله: {وَوَجَدَكَ ضَآلًا فهدى} [الضحى: 7] قال أي محبًا للهداية فهداك، ولا يخفى سقوط هذا القول. والعلم عند الله تعالى.قوله تعالى عن نبيه موسى: {فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ}.خوفه منهم هذا الذي ذكر هنا أنه سبب لفراره منهم، قد أوضحه تعالى وبين سببه في قوله: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى المدينة يسعى قَالَ ياموسى إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فاخرج إِنِّي لَكَ مِنَ الناصحين فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين} [القصص: 20- 21] وبين خوفه المذكور بقوله تعالى: {فَأَصْبَحَ فِي المدينة خَآئِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 18] الآية.قوله تعالى: {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ المرسلين}.قد قدمنا الآيات الموضحة لابتداء رسالته المذكورة هنا في سورة مريم وغيرها.وقوله: {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا} قال بعضهم: الحكم هنا النبوة، وممن روى عنه ذلك السدى.والأظهر عندي: أن الحكم هو العلم النافع الذي علمه الله إياه بالوحي والعلم عند الله تعالى. اهـ.
|